إن أحد الإشكاليّات التي برزت مؤخراً في بيئة ريادة الأعمال في المملكة هي منافسة الجهات الحكوميّة للقطاع الخاص، عبر تقديم منتجات تنافس بشكل مباشر مشاريع المبتكرين وروّاد الأعمال. وغالباً تهدف هذه المنتجات إلى تحديث ممارسات الأعمال في الجهة الحكومية، وتقديم خدمات أفضل للمواطن. لكنها في النهاية تقوم بتنفير المبتكرين والمستثمرين، مما يؤثر سلباً على بيئة ريادة الأعمال في المملكة، بالإضافة إلى تعارضها المباشر مع الاستراتيجية الاقتصادية للدولة.
إن المنافسة بين الجهات الحكوميّة ورواد الأعمال تتعارض مع المبادىء الأساسيّة للتنافسيّة، وتخلو من أي تكافئ. فمثلاً إذا قرّرت هيئة السياحة تكوين منصة اسمها “حجوزات” تتم عبرها حجوزات الفنادق، فإن الهيئة تملك من الأدوات والموارد ما يجعلها قادرة على تقديم منتج جيد، وفي ذات الوقت قتل الشركات المنافسة. وبشكل عام إذا أرادت جهة حكوميّة تقديم منتج معيّن، فإنها تملك الموارد الماليّة الّلازمة لتطوير وتسويق منتجها، وقد تملك بيانات السوق والمستخدمين أو تحصل عليها من جهة حكومية أخرى، بالإضافة إلى أنها تملك قوّة القانون التي قد تجبر من خلاله الجميع باستخدام منتجها، أو قد تستخدمه للتضييق على أي منافس. بينما عدم وجود حالة حتى الآن استخدمت فيها أي جهة حكوميّة جميع هذه الأدوات لمنافسة الشركات الناشئة لا يعني أنها غير قادرة على ذلك. على صعيد آخر فإن ردّة فعل السوق لهذا التدخّل سوف تعتمد غالباً على حالته. فإذا كان السوق خالياً أو مازال ناشئاً، لم يظهر فيه لاعبين كبار بعد، فإن منتج الوزارة سيكتسح بسهولة، مدمراً الشركات الناشئة الموجودة لتنتهي أي منافسة سريعاً. أما إذا كانت هناك شركات ناشئة ناضجة في السوق، ولديها مستثمرين متنفذين، فقد يكون هناك مجال للتداول وتغيير قرار الوزارة، هذا إن لم تتفادى الوزارة من البداية الدخول في هذا المجال. فمثلاً حتّى لو رأت وزارة النقل بأنها قادرة على تقديم تطبيق أفضل لتنظيم خدمات النقل التشاركي، فإنه من شبه المستحيل أن تخوض هذا المجال في ظل وجود الّلاعبين والمستثمرين الحاليّين المؤثرين.
نتيجة ذلك هي أنّه بدل أن يحفّز تطوير أعمال الجهات الحكوميّة بيئة ريادة الأعمال في المملكة، فإنه أصبح يسهم في تقييدها. ولذلك انعكاسات اقتصاديّة سلبيّة عديدة. فمنتجات الجهات الحكوميّة تقوم أولاً بتدمير اقتصاديات المجالات التي تدخلها مبكراً، خصوصاً عند دخولها لمجال خالي من الشركات الناشئة المحليّة. إن هذا الدخول المبكر يبعد رواد الأعمال عن المجال ويحرمهم من الفرص الإستثماريّة في مجال قد يكون واعد. أما إذا كان المجال الذي تقتحمه الجهة الحكوميّة ناشئاً فإنها ستسبب هلعاً وإحباطاً بين رواد الأعمال والمسثمرين المتواجدين، بالإضافة إلى الأبعاد طويلة الأجل لذلك القرار. فوجود التهديد الحكومي قد ينفّر رواد الأعمال بشكل عام عن بدء مشاريعهم في المملكة. بالإضافة إلى أن عدم الاستقرار هذا قد يستبب في عزوف المستثمرين عن الدخول في الشركات الناشئة السعوديّة، مما ينعكس بشكل سلبي على بيئة ريادة الأعمال في المملكة بأكملها. على صعيد آخر، فإن تنفيذ الوزارات لمنتجاتها التقنية قد يسهم في تدهور الخدمة على المدى الطويل، رغم التطوّر الملحوظ في المدى القصير. فالإشكاليّة مع تنفيذ الجهة الحكوميّة هو غياب الدافع للتطوير والابتكار، بالإضافة إلى افتقار عقليّة رائد الأعمال الذي يسعى لفهم ما يريده المستخدمين، ويبحث عن القيمة المضافة التي يقدمها منتجه. فأسلوب العمل في المؤسسات الكبرى بيروقراطي ويتفادى المخاطر بطبعه، مما لا يتواكب مع متطلبات الابتكار والتغييرات المتتاليّة للمنتج، والتي تشكّل صميم تطوير التقنيات الحديثة.
إننا قد نتفهّم أن الضغوط الحاليّة قد تكون كبيرة على بعض الجهات الحكوميّة لتطوير أدائها وتحقيق نتائج سريعة في الأجل القصير. بينما دعم الجهات الحكوميّة للشركات الناشئة في المجال تهتم به، وتسهيل الطريق أمام روّاد الأعمال هي إجراءات ذات أهداف طويلة الأجل. لكن هناك طرق للوزارات لتحقيق أهدافها، دون تحقيق ضرر كبير على بيئة ريادة الأعمال في المملكة. فأولاً تستطيع الجهات الحكوميّة دعم الشركات الناشئة الموجودة في السوق التي تقدم منتجات شبيهة لما تهدف إليه الوزارة. ومن الممكن أن تعقد هذه الجهات اتفاقيات طويلة الأمد مع روّاد الأعمال، لتشجيعهم على الاستثمار في هذه المجالات. من الممكن أيضاً أن يكون للجهات الحكوميّة دور أكثر فاعليّة من خلال إقرار التنظيمات التي تحفّز رياديي الأعمال والمستثمرين الدخول في المجالات الاستراتيجيّة للوزارة. وفي حال عزوف المستثمرين عن المجال، قد تنشىء الوزارة صندوقاً استثمارياً يشكّل فترة انتقاليّة، حتى يتم تكوين مجال نشط يخدم الوزارة ويجذب المستثمرين. وقد تتملّك الوزارة حصص استراتيجيّة في الشركات الرئيسيّة التي تعتمد عليها أعمالها. أما على صعيد الدولة، فقد تضع الحكومة استراتيجيّة واضحة تمنع أو على الأقل تقنّن منافسة الجهات الحكوميّة للقطاع الخاص، وتهدف إلى تحفيز بيئة ريادة الأعمال في المملكة. إن مثل هذه الإجراءات قد تشكّل بداية لمعالجة هذه الإشكاليّة، مطمئنةً المستثمرين وروّاد الأعمال، ومسهمةً بتحقيق بيئة أكثر جاذبية للابتكار والاستثمار.
أحدث التعليقات