إنها المعلومة، السلاح الفتاك الذي به ينهض الفرد بل والأمم والشعوب، المعرفة التي تتحول إلى مشاريع وأعمال تساهم في تغيير الواقع وصنع المستقبل، ومن دونها يبقى الإنسان قابعاً مكانه وتبقى الحياة راكدة جامدة، لقد تناقل الإنسان المعلومات عبر الكتب منذ مئات السنين، لكن لم يكن الأمر سهلاً، ولم يكن انتشار تلك الكتب أسهل، ثم جائت المطابع الحديثة وطرق النشر الجديدة فسمحت بانتشار الكتب إلى كل بقاع الدنيا، ورغم ذلك، بقيت المعلومات الهامة والحساسة حكراً على أفراد وجهات، وحتى تلك المعلومات المتاحة، لم يكن من السهل الحصول عليها في أي مكان في العالم.
ثم أتى عصر الانترنت، حيث انفتح الجميع على الجميع، وأصبحت الكتب فيه متاحة بالمجان، لكن رغم ذلك أصبح إنسان العصر الحديث أقل رغبة للقراءة والإطلاع على أمهات الكتب، وذلك بسبب أن أسلوباً جديداً لانتشار المعرفة قد ظهر، فلقد أصبح بالإمكان اليوم الحصول على المعلومة باشكال عديدة، منها الصوت والفيديو والمنشورات المختصرة والدورات التعليمية التفاعلية وغيرها مما هو أكثر تشويقاً وجذباً.
إننا في عصر أصبحت فيه المعلومة متاحة للجميع، في عصر السماوات المعرفية المفتوحة، من أراد أن ينهل من بحر العلوم، فهاهي المحيطات أمامه متاحة لكل سباح ماهر، أما السباحة فيها فليست بتلك الصعوبة، بعض مهارات البحث والتعامل البسيط ويصبح الشخص سباحاً ماهراً، كل ما يحتاجه المرئ هو الكثير من العزيمة والرغبة الصادقة في تحصيل العلم والتغير نحو الأفضل.
سوف نتطرق في هذه المقالة إلى هذه الزواية من زوايا الانترنت، بعد أن تطرقنا إلى زوايا أخرى في المقالتين الأولى والثانية من هذه السلسلة، هذه السلسلة التي نأمل من خلالها الوقوف على خط الزمن، ثم التأمل في واقعنا، أين كنا وأين أصبحنا، وكيف تغيرت حياتنا تغيراً دراماتيكياً في العشرين السنة الماضية بفعل هذا الزائر الدخيل على حياتنا … الإنترنت.
صوت وصورة
يمكن أن تشاهدها بدلاً من أن تقرأها، لقد أصبحت الطريقة المرئية لنقل المعلومة منتشرة بشكل كبير في فضاء الإنترنت، فعلى سبيل المثال، أصبحت المناهج الدراسية النظامية متاحة بالكامل على اليوتيوب وبالمجان، ماعليك إلا اختيار المادة والسنة الدراسية ثم احتساء كوب من القهوة أمام الشاشة ومشاهدة مدرسك الخاص وهو يعطيك الدرس بأفضل طريقة. وهذا كله بفضل العديد من المبادرات التي أطلقت في السنوات الأخيرة لتدريس مناهج المواد الدراسية النظامية على شبكة اليوتيوب، منها (أكاديمية التحرير) و (نفهم).
ظهر في السنوات الأخيرة نمط جديد للتعلم، هو ما يسمى بالـ(MOOC) الذي لا يكتفي فقط باستخدام الفيديو أساساً للتعليم عن بعد، لكن أيضاً أتاح التفاعل مع هذا المحتوى والاستفادة المشتركة مع الآخرين وطرح الأسئلة والتواصل البناء مع المدرس والطلاب، وهنا نجد أن هذا النمط من التعليم مفيد جداً وقد تفوق فائدته أنماط الدراسة العادية في المعاهد وحتى الجامعات المحلية.
هنالك العديد من المنصات والمواقع التي تعتمد أسلوب (MOOC) في نشر العلم النافع وإنشاء الدورات المتخصصة في الكثير من المجالات، لعل أشهرها في العالم العربي (رواق) و (إدراك) والتي تقدم دورات ذات جودة عالية في العديد من المجالات، كما أن هنالك الكثير من المنصات الأجنبية بعضها يتبع جامعات عالمية عريقة، يمكن الإطلاع على بعضها عبر صفحة خاصة في الويكيبيديا، كما يمكن متابعة الدورات الجديدة عبر موقع (mooc-list).
مجاني وغير مجاني
لقد أصبحت المعلومة في الغالب مجانية، أي شخص يمكن أن يصل إليها من أي مكان، فقط يحتاج إلى اتصال بخط الانترنت وجهاز لفتح المواقع والصفحات، قد يكون هذا الجهاز هاتفاً أو حاسوباً أو حتى جهازاً لوحياً، الأمور التقنية أصبحت في متناول الجميع وبأسعار مناسبة، لكن حتى أولائك الذين يودون الحصول على تعليم ذو جودة عالية؛ سوف يجدون بغيتهم في بعض المواقع التي توفر الدورات التعليمية القوية والمميزة.
موقع مثل udemy أو Lynda يوفر الكثير من الدورات التدريبية في العديد من المجالات والتخصصات بمبالغ مناسبة، الجميل في الأمر أن هذه المواقع تعتمد على خاصية تقييمات المستخدمين لإظهار أفضل الدورات في كل المجالات، ومن خلال هذه الخاصية سوف تتمكن من الوصول إلى أفضل الدورات وأفضل المدربين الحاصلين على رضى الكثير ممن انضموا إلى دوراتهم واستفادوا منها، سوف تتمكن من قراءة تعليقاتهم ومعرفة آرائهم حول المدرب والمادة التدريبية، ومن ثم تُقَرر الإشتراك أو عدمه.
ومن خلال هذا كله ندرك أن التعليم المفتوح الذي يعتمد على الانترنت أفضل بكثير من التعليم النظامي، لم نعد نتحدث هنا عن توفر المعلومة بل نتحدث عن جودة المعلومة، جودة القالب الذي يُستَخدم لإيصال المعلومة، فعصر الإنترنت قد أوجد لنا قوالب أفضل بكثير من القوالب العادية والتقليدية.
شعوب العالم تتعاون
مايميز عصر الانترنت في هذا الجانب، أنه لا يوجد هنالك مؤسسات معنية بنشر المعلومات وتوفير المعرفة للناس، ليست الحكومة ولا وزارة التعليم ولا أي مؤسسة خاصة أو عامة، الجميع يشارك في بناء القاعدة المعلوماتية على شبكة الانترنت، أي شخص يمكن أن يساهم بأبسط الوسائل والطرق، أنت وأنا يمكن أن نشارك في نشر المعلومة النافعة كلٌ في تخصصه وفي مجال خبرته.
يمكن ببساطة أن تنشئ مدونة مجانية على شبكة الانترنت ولن تحتاج إلى معرفة تقنية أو برمجية، هنالك الكثير من الأدوات البسيطة التي يمكن حتى للطفل أن يستخدمها، ومن ثم تبدأ في كتابة المقالات المفيدة في مجالك، وسوف يتولى قوقل إيصال الناس إليها عندما يحتاجونها، أيضاً يمكنك أن تشغل كاميرا هاتفك الذكي وتبدأ بالتحدث في مجالك وتعلم الآخرين ما تعلمته في حياتك، ثم تنشره في اليوتيوب ليستمر بعرض نفسه على كل من يحتاج إليه حتى يشاء الله، دون تدخل منك.
لا يخفى علينا موقع الوكيبيديا، أو (الموسوعة الحرة)، إنها موسوعة الموسوعات وبحر المعلومات الهائل الذي لو فكرنا في نقله إلى كتب مطبوعة فربما أعيتنا الطرق والحيل لتوفير كم الورق الذي نحتاجه للطباعة والنسخ، تقريباً أي شيء يخطر في بالك سوف تجد له صفحة في الغالب داخل هذه الموسوعة، هي تعطيك المفاتيح الأساسية لأي علم والتعريف الأولي لأي مفهوم، من خلالها سوف تتعرف على ماهية الأشياء وتصل إلى بداية الخيوط التي توصلك إلى المزيد من المعلومات.
هذه الموسوعة يشارك في بنائها كل الناس، أي شخص يمكنه أن يضيف أو يعدل، لذلك اسمها (مفتوحة) مفتوحة للجميع للمشاركة ومفتوحة للجميع للقراءة والإطلاع، فعلاً هي نجمة ساطعة في فضاء الانترنت ساهمت في تشكيل سمات عصره بشكل واضح.
ثم ماذا … ؟
وأخيراً ،، يبقى أن يتحرك الشخص ويتجه للاستفادة من هذه الفرصة العظيمة، أن يتعلم وينمي مهاراته ومعارفه كي يحسن من واقعه ويعيش الحياة بشكل أفضل، المشكلة أن توفر المعلومات بهذا الشكل المفتوح يساهم في أن يكون الناس أكثر استسهالاً ولا مبالاه بهذا الكنز الثمين، فلو كان شيئاً عزيز المطلب لأدركوا مكانته وعظم شأنه، ويجب أن لا تنطوي علينا هذه الخدعة.
يجب علينا أن ندرك أن العلم أساس العمل، والعمل هو الذي ينمي الحياة، وبدون العمل البناء لا يكون لحياتنا قيمة، فإذا أردنا أن ننهض بأنفسها وبشعوبنا فيجب علينا أن نخطط كيف نتعلم، ثم نرتقي في مدارج العلم والمعرفة بالاستفادة من شبكة الانترنت التي سهلت لنا الوصول، حتى نساهم في تحرك العجلة إلى الأمام، عجلة الحضارة البشرية.
أحدث التعليقات