يمكن أن تسميها “منصات التدوين” الجماعية، أو “مواقع نشر المقالات” أو أياً كان، هي تلك المنصات التي تمثل الجيل القادم من خدمات النشر الرقمي، فبدلاً من منصات التدوين الفردية (مثل blogger و wordpress.com) التي سمحت لأي شخص بأن يمتلك زاوية رقمية خاصة به، يكتب وينشر فيها لوحدة، أصبح الاتجاه السائد الآن هو أن تجمع المنصة جميع المشاركات تحت غطائها، لإعطاء الفرصة لذلك المحتوى النصي لأن ينتشر ويخرج من سجنه الضيق، سجن إسم النطاق.
مشكلة المنصات التقليدية
مشكلة منصات التدوين التقليدية، والتي يمكن أن نسميها منصات النشر الفردية، أنها تعزل كل مدونة أو موقع لوحده، صحيح أنها تعطي مساحة حرة لصاحب المدونة بنشر ما يريد لوحدة في مدونته، لكن المشكلة هي في انتشار تلك المقالات والتدوينات، جماهير تلك المدونات هم جماهير صغيرة متفرقة، قليلٌ هنا وقليلٌ هناك، قد تجد الكثير من المحتوى الدسم والمفيد لكنه مغمور في دهاليز إحدى تلك المدونات التي لا يصل إليها الكثير.
ولحل تلك المشكلة، ظهرت في الأشهر والسنوات الأخيرة منصات تفتح المجال للنشر، لا نتحدث عن مواقع المقالات العادية والمواقع الإخبارية التي ينشر فيها فريق تحرير محدد سلفاً، بل نتحدث عن منصات مثل “مدونات الجزيرة” و”منشر” و “حسوب I/O” وغيرها من المنصات العربية، وقبل هذه المنصات هنالك المنصة الأم التي قادت وتقود هذا الإتجاه الجديد في مجال النشر الرقمي، إنها المنصة الأجنبية المشهورة “Medium” تلك تعتبر علامة فارقة في مجال النشر الرقمي.
بالطبع ستخبرني أن “مدونات الجزيرة” و”ساسة بوست” ليستا مثل منصتي “منشر” و “Medium”، فهاتين الأخيرتين تفتحان المجال للنشر بشكل مباشر بدون مراجعة، لكن في مدونات الجزيرة هنالك عملية للمراجعة تسبق النشر، وبالإمكان أن لا تقبل المقالة، هذا الأمر صحيح، لكن من جهة أخرى الجميع في بوتقه واحدة وتحت مظلة مشتركة، إنها منصات تفتح الباب أمام الجميع للنشر، ليست بحاجة لوساطة لتتمكن من النشر فيها، أو إرسال سيرة ذاتية للموافقة على الإنضمام إليها كما هو الحال في مواقع الصحف المشهورة.
في رأيي، هنالك مواصفات مهمة يجب ان تتوفر في جيل منصات النشر القادمة هي:
1) النشر مفتوح لأي شخص
بالطبع هو عنصر أساسي، من الصعب تسمية الموقع “منصة نشر” بدون هذه الخاصية، هذا هو الفارق الرئيسي بين المواقع الإخبارية العادية وبين منصات النشر، فمنصات النشر تتيح التسجيل لأي شخص، وتوفر لوحة تحكم لكتابة المقالات والتدوينات الجديدة وإرسالها للنشر مباشرة أو للمراجعة، أما المواقع العادية فقد تفتح المجال لنشر المقالات، لكن ربما تطلب منهم إرسالها عبر الإيميل.
بعض المنصات تشترط مراجعة المدخلات الجديدة قبل نشرها، مثل مدونات الجزيرة وهافينغتون بوست، والبعض الآخر لا يشترط ذلك وبإمكانك نشر مقالاتك بعد كتابتها مباشرة، النوع الأول من المنصات يريد التأكد من المحتوى ليضمن جودة ما يقدمه، هذا نوع من القيود، أما النوع الآخر المفتوح فيعتمد على آليات فرز المحتوى الجيد وإهمال ماسواه، عبر خصائص الإعجاب والمشاركة التي توضح مقدار الفائدة من كل مقالة، ومن ثم الفرز والتفضيل، طبعاً بمساعدة القُرّاء أنفسهم.
2) أدوات كتابة وتنسيق
أمر أساسي آخر؛ توفير لوحة تحكم لكتابة المقالات والتدوينات وتنسيقها بشكل سهل، بدون الدخول في متاهات الأكواد، وأن تكون لوحة التنسيق تلك سهلة قدر المستطاع، وتدعم إضافة الصور وإدراج الفيديوهات والمنشورات من الشبكات الاجتماعية المختلفة، وكلما توسعت إمكانية لوحة التحكم والكتابة كلما كان أفضل، من أجل إخراج محتوىً نصياً جميلاً، لأن القالب أو الشكل مهم أيضاً عند صناعة المحتوى.
3) الفرز والتفضيل
فرز المحتوى وإبراز الأفضل منه أصبح ضرورة في ظل تضخم المحتوى بشكل كبير يوماً بعد يوم، ينطبق الأمر على كل أنواع المحتوى الرقمي في شبكة الانترنت، وبالطبع في مقدمته المحتوى النصي (المقالات)، فعندما تفتح منصات النشر أبوابها للجميع، سيصبح عدد الكتاب كبيراً جداً، وستمتلئ الموقع بالمقالات الجديدة كل يوم، والقارئ يريد الأفضل والأحسن من كل ذلك.
في “مدونات الجزيرة” يتم قياس حجم مشاركة التدوينات على شبكات التواصل الاجتماعي، التدوينات التي تحضى بعدد مشاركات أكبر خلال ساعات من نشرها، يتم إبرازها ووضعها في الشريط الجانبي ليحضى بالإنتباه ويشاهده كل زوار الموقع، هذا نوع من التفضيل بناءً على عدد المشاركات، هنالك طريقة أخرى للتفضيل بناءً على عدد التوصيات أو الإعجابات الداخلية (داخل المنصة)، مثل ما يتم في “حسوب I/O”.
هذه أحد المواصفات المهمة لمنصات النشر الحديثة، أن توجد آليات تقنية تقوم باكتشاف المحتوى الجيد تلقائياً، ومن ثم تعرضه على جمهور أكبر وتوصله لكل من يريد المحتوى الأفضل، أياً كانت آلية التفضيل تلك، فالأمر يحتمل لأفكار جديدة عدى “عدد المشاركات” و “التوصيات”، على سبيل المثال: بحسب مدة بقاء القارئ داخل المقالة ! كما يحدث في محركات البحث عند تقييم جودة المحتوى، أو أي طرق أخرى.
4) المفضلة للقراءة فيما بعد
في موقع ساسه بوست، سوف تجد أيقونة الحفظ بجانب التعليق أعلى المقالة، إن كنت مهتماً بالمقالة وليس لديك وقتٌ كافٍ لقراءتها، فقم بحفظها للعودة إليها فيما بعد، داخل الموقع وليس خارجه، أنا أعرف أن هنالك طرق عديدة لحفظ الروابط أهمها “مجلد الإشارات” أو “المفضلة” داخل برامج التصفح، لكن المطلوب هو أن تتوفر هذه الخاصية داخل المنصة نفسها مثلما أصبحت متوفرة في معظم الشبكات الاجتماعية.
5) التعليق على الفقرات
الأمر المتعارف عليه منذ نشوء المنتديات ومن بعدها المدونات، أن التعليق يكون على المحتوى بأكمله، على المقالة بمجملها، هذا الأمر لم يعد له شعبية كبيرة، التطور الجديد لخاصية التعليقات هي أن تتم على مستوى الفقرة الواحدة، فإذا كانت لديك إضافة أو مشاركة بخصوص شيء محدد داخل المقالة فيجب أن يكون هنالك إمكانية التعليق على تلك النقطة وليس على المقالة بأكملها.
هذا الأمر موجود في منصة “منشر” ومن قبلها منصة “Medium”، لا أدري بالضبط من هو الذي ابتكر هذا الأسلوب في الرد والتعليق في بادئ الأمر، لكنه متوفر منذ سنوات عبر منصة “SoundCloud” المتخصصة في نشر المحتوى الصوتي، ففيه يمكنك التعليق على نقطة محددة ضمن الشريط الصوتي.
كما نرى؛ لم يعد معظم القراء يكتب تعليقات على المقالات والتدوينات، قد تجد مقالة قرأها 5 أو 10 ألف شخص لكن ليس فيها تعليق واحد، هذا أمر محزن، هل يعقل أنه ولا شخص من هذا العدد الكبير ثارت في عقله تساؤلات أو تأملات وأحب مشاركتها مع الآخرين، بالتأكيد هنالك الكثير مما يمكن أن يُقال ويُكتب لإثراء المقالة، المشكلة أن طريقة التعليق التقليدية لم تعد تجذبهم، نحتاج إلى تحسينات وتطويرات جوهرية فيما يخص التعليقات كي نجعل القارئ -كما الكاتب- يشارك في صناعة المحتوى المفيد، وخاصة أن ذلك المحتوى سيبقى وسيصل إليه آلاف القراء كل شهر عبر محركات البحث.
6) متابعة الكُتاب
كما أن المقالات الجيدة قد تضيع وسط زحمة المحتوى، كذلك الكاتب الجيد قد يضيع اسمه وسط جموع الكُتاب، لذلك فخاصية “المتابعة” أصبحت مهمة في منصات النشر، تلك الخاصية التي تنتمي في الأساس إلى الشبكات الاجتماعية، فأنت تتابع من تريد من الأشخاص كي تتعرض للمحتوى القادم منهم فقط، لأن هنالك الملايين ممن ينشرون في صفحاتهم، نفس الأمر في منصات النشر الجماعية بعد أن تصبح مزحمة بالمشتركين.
في “حسوب I/O” خاصية المتابعة متاحة لكن فقط للمجتمعات، لكنها غير متاحة للأفراد، أما في منصة “منشر” فهي متاحة للأفراد، الحاجة لأن تتاح هذه الخاصية على مستوى الفرد أمر مهم.
وأخيراً … هانحن نقف على عتبات ثورة جديدة، ليست ثورة تقنية تركز على الأدوات، لكنها ثورة معرفية تركز على المحتوى، المحتوى الذي أصبح ثروة البشرية في هذا العصر، فلدينا الآن حاضنة تتيحه لجميع البشر الوصول للمحتوى على حدٍ سواء، وماهو مطلوب منا الآن ومستقبلاً، هو إبداء الاهتمام بذلك المحتوى، والمساهمة في إثراءه عمقاً لا سطحاً، والأهم من ذلك؛ إيجاد الحلول لفرزه وتمييز الصالح منه من الفاسد، والنافع من الغث.
أحدث التعليقات