نعود إليكم بحلقة جديدة من سلسلة (سمات عصر الانترنت) التي تهدف لتأصيل المظاهر والتغيرات الكبيرة التي تحدث لنا ولحياة الإنسان بشكل عام فيه هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر الإنترنت، عصر الإعلام الجديد، عصر التقنية والإنفتاح المعلوماتي، سمه ماشئت، لكن الانترنت هو فعلاً مربط الفرس والشيء الهام الذي ساهم ويساهم في تغيير حياتنا بشكل دراماتيكي.
جميل أنك تقرأ هذه الكلمات الآن، لازلت وفياً للكلمة والسطر والفقرة، للمحتوى المكتوب، لأنك لو بحثت عن الجموع اليوم فستجدهم أمام مقاطع الفيديو، بداخل موقع ومنصة اليوتيوب، يتنقلون من فيديو إلى آخر، يتركون لاقتراحات اليوتيوب التي تظهر يميناً وشمالاً أن تحدد وجهاتهم التالية، إنها حقاً سمة بارزة، وعلامة فارقة في تاريخ التدوين والكتابة، في تاريخ صناعة المحتوى الذي يحمل التجارب الإنسانية وينقلها إلى الأجيال التالية، لذلك وجب علينا أن نتوقف قليلاً عند هذه السمة.
التدوين وبناء الحضارة
أهم ما يميز هذا المخلوق الفريد من نوعه (الإنسان) أنه قادر على تمرير ما وصل إليه إلى الآخر البعيد عنه في الزمان والمكان، هذه الميزة البارزة الغير متوفرة لدى أي مخلوق آخر؛ تتم عبر أداتين هما: اللغة والتدوين.
كل إنسان له تجاربه في الحياة، له أفكاره واستنتاجاته، له رؤيته الخاصة للكون، وعبر اللغة هو قادر على بث تلك الأفكر وإطلاق سراحها ونقلها إلى غيره من بني البشر ممن يعاصرونه ويعيشون بقربه، وعندما يشارك الإنسان ما لديه فهو أيضاً يتلقى ما لدى الآخر (عبر اللغة ذاتها) فيبني على ما توصل إليه الآخر ويكمل مسيرته ويتقدم أكثر وأكثر، لكن المشكلة هي كيف يوصل تلك الأفكار والتجارب إلى البشر الآخرين ممن يعيشون في النصف الثاني من الكرة الأرضية مثلاً، هل يسافر إليهم ليحدثهم بما لديه؟ الأسهل هو أن يستخدم (التدوين)
التديون أو الكتابة لا يتخطون حاجز المكان فقط، لكن الأهم من ذلك هو تخطي حاجز الزمان، فأنت الآن قادر على قراءة أفكار شخص عاش قبلك بألف سنة أو أكثر، العلوم والأفكار والتجارب نقلت إلينا عبر الكتب، لم نعد مضطرين أن نبدأ من جديد في كل شيء، نحن دائماً نكمل ما بدأه الآخرون، نبني من حيث انتهى البناؤون القداما، نكمل المشوار في بناء الحظارة.
أحد الفوائد العظيمة للتديون، هو إمساك اللحظة، أو لنقل (كتابة التاريخ) فكتابة التاريخ وتدوينه من الأنشطة الإنسانية المهمة التي لم يعد بالإمكان الاستغناء عنها، فالتاريخ هو مدرسة كبيرة يُعَلّم إنسان الحاضر الدروس التي تعلمها إنسان الماضي، كي لا يقع في نفس الأخطاء، كي يستلهم العبرة ويستفيد من التجربة في تطوير حياته، لكن المشكلة هي أن اللغة المكتوبة عاجزة عن إيصال صورة كاملة ومطابقة للحظة المعاشة، مهما كتبت فالقارئ دائماً يستخدم مخيلته لمحاولة فهم تلك اللحظة الماضية، تلك اللحظة التي لم يتنسى له عيشها بنفسه.
كانت تلك معظلة في كتابة التاريخ، إلى أن تمكن الإنسان من اختراع شيء مذهل اسمه (الفيديو) أو التصوير المتحرك، تلك الوسيلة التي استطاع من خلالها تخليد اللحظة المعاشة، نقلها بكاملها إلى الأجيال القادمة، لم يعد الإنسان بحاجة للكُتّاب والمؤرخين البارعين في تحويل اللحظة إلى كلمات وأسطر، فليصمت الجميع الآن، لندع الآلة تقوم بعملها، لندعها تراقب وترصد عبر العدسة، ثم تحفظ ما حصلت عليه في شرائط أو حتى “ذواكر“.
وسيلة جديدة لكتابة التاريخ
قبل سنوات، كنت أتأمل وأنا أشاهد بعض الفيديوهات الخاصة بأحداث الثوارت العربية، لقد رصدت الكاميرات معظم الأحداث المهمة، يوماً بعد يوم، إن أردت معرفة ما حصل بنفسك فلن تكون بحاجة لمن يخبرك، لن تحتاج لكتاب يحكي لك الأحداث، إلا لو كنت بحاجة لقراءة الأحداث من وجهة نظر بشرية وبعيون شخص آخر له توجهات معينة، أما إن كنت تريد الحقيقة المجردة، فشاهد تلك الفيديوهات.
قلت في نفس: إنها طريقة رائعة لرصد التاريخ، لحفظ الوقائع كما هي، لنقلها للأجيال القادمة بدون رتوش أو إضافات، لن يشكك أحد في مصداقيتها، لن يقول قائل أنه تم تزييف التاريخ، إنه يشاهد الوقائع وكأنه وسط المعمعة، يرى ما حدث ويسمع ما قِيل، بل ربما كان الأمر أفضل مما لو كان هو موجود وقت الأحداث، لأنه قادر الآن أن يشاهد الوقائع من أكثر من زاوية وعبر أكثر من عدسة.
الآن الناس يصورون أطفالهم وهم يكبرون، رحلاتهم وأنشطتهم، تلك المقاطع ستبقى سنوات وسنوات، يمكنهم الرجوع لسجل ذكرياتهم المرئي، أن يتذكروا لحظاتهم المميزة، أو يمكن أن يجروا حواراً مع نسختهم القديمة كما فعل صاحب هذا الفيديو:
المحتوى المرئي مشوق بطبيعته، لأنك قادر على إضافة المؤثرات البصرية وعلى استخدام العديد من مهارات المونتاج والتحرير لإنتاج قطعة فنية رائعة تقدم المحتوى بشكل مشوق ومباشر إلى عقل المشاهد عبر عينيه وأذنيه، الناس يفضلون مشاهدة المعلومة التي تأتي بطريقة مشوقة بدلاً من قرائتها، لأن المشاهدة تضيف عنصر المتعة إلى عملية التلقي، أما في القراءة النصية فهذا العنصر مفقود.
الفيديو في عصر الإنترنت
بدأ الويب في سنواته الأولى بالتركز على الروابط التشعبية، تلك التي توصل الصفحات بعضها ببعض، أما محتوى الصفحات فكان محتوىً نصياً في الغالب، ومع التقدم في خوارزميات ضغط الصوت والفيديو، والتطور الموازي له في أدوات وآليات تصميم صفحات الانترنت، بدأ المحتوى المرئي يدخل وينتشر تدريجياً عبر صفحات الويب.
لازلنا نشهد تطور أدوات ومنصات نشر الفيديو في العالم الرقمي، لكن السنوات الماضية شهدت بزوغ نجم أهم منصة لمشاركة الفيديو (اليوتيوب) وخاصة بعد أن فتحت المجال للاشتراك فيبرنامج الشراكة للكثير من الدول منها دول عربية، فقد سمح برنامج الشراكة بمشاركة الأرباح التي تأتي من الإعلانات بين قوقل (من تمتلك اليوتيوب) وبين أصحاب المحتوى المرئي داخل الشبكة.
برنامج الشراكة شجع الكثير لإنتاج محتوىً مرئي جيد ومميز، كي يلاقي الإقبال والانتشار، لأنه كلما انتشر الفيديو وحقق مشاهدات أكثر، كلما زاد مقدار مكسب صاحب الفيديو، هذه النقطة لوحدها ساهمت وتساهم بشكل كبير في إثراء المحتوى المرئي في اليوتيوب.
وأخيراً …
هذه السمة لازالت تنمو، إنها سمة المستقبل المنظور، لقد رأيناحرص الشبكات الاجتماعية الأخرى مثل فيسبوك وتويتر على توفير خاصية بث الفيديو، وقبلها سمحت تلك الشبكات بنشر الفيديو عبر منصاتها، وكل يوم نرى اهتماماً أكبر من قبل الشبكات الاجتماعية الأخرى بهذا النوع المستقبلي من المحتوى، أما اليوتيوب فهي تقيم الفعاليات وتكرم أصحاب القنوات، وكل ذلك لتشجيع منشئي المحتوى المرئي على إنتاج ونشر المزيد من الفيديوهات.
أحدث التعليقات