يصل بسلام إلى مدخل منزله، يقف أمام الباب ثم يبدأ باستخدام هاتفه الذكي، الهدف هو الدخول إلى المنزل، لكن الباب مقفل، يريد أن يفتحه عبر التطبيق الذكي الذي سيرسل الأمر عبر الانترنت للباب كي يفتح، تطير البيانات الرقمية في الهواء وتتنقل عبر الموزعات الشبكية والألياف الضوئية وتقطع رحلة مضنية حتى تعود إلى راوتر منزله المتصل بتلك الأجهزة في بيته، ثم أخيراً يصل الأمر بسلام إلى ذلك القفل (الذكي) فيفتح له الباب، وهنا نتذكر ذلك جحا حين طلب منه أن يلمس أذنه، فأبى إلى أن يختر الطريق الطويل ويلف ذراعه حول عنقه حتى يصل إليها.
يدخل البيت المضلم، يمر بجانب مقبس الإضاءة، لكن بدلاً أن تنقر إصبعه عليه سريعاً، يقوم باستعمال التطبيق (الذكي) ويقضي بعض الوقت لاستكشاف أي الأيقونات هي الخاصة بإضاءة تلك الغرفة، ثم يلمسها فيضيء المكان، فيشعر بسعادة غامرة لأنه لم يضطر ويتعب نفس برفع يده إلى ذلك المقبس المثبت في الجدار، فهو يتعامل مع منزل ذكي ليس كغيره من المنازل.
يستمر السيناريو عند تشغيل التلفاز أو تغيير القناة وعند تشغيل الموسيقى وغيرها من المهام العادية في المنزل (الغير عادي)، فبالرغم من أن التقنية (القديمة) قد سمحت للشخص بأن يغير محطة التلفاز عبر جهاز صغير، فهو لم يعد مضطراً أن يقوم من مكانه ومن فوق (الكنبه) في كل مرة يريد تغيير القناة، إلا أن التقنية الحديثة أرادت أن تريح يده وتعفيها من هم وعناء الإمساك بالجهاز (الريموت كنترول) ثم الكبس على زر التغيير، الآن هو قادر على فعل ذلك عبر التحدث الصوتي بدون أن يحرك أي عضو من أعضاءه (سوى لسانه).
لا ندري كيف سيكون التطور القادم من أجل راحة الإنسان، هل سيصبح أسلوب الأوامر الصوتية أو لمس شاشات الهواتف الذكية أمراً متعباً واستنزافاً للوقت الثمين؟ وهل سيتم تطوير آلية جديدة بالتحكم بالأجهزة الذكية عبر تحريك مقلة العين مثلاً، أو بمجرد التفكير بالأمر فتقوم المستشعرات الذكية بالتقاط النوايا مسبقاً ثم تأدية العمل نيابة عن الإنسان؟
بخصوص الوقت
وما دمنا قد أتينا على ذكر (الوقت)، فدعونا نتوقف قليلاً ونتساءل: هل فعلاً تلك الأجهزة الذكية التي من شأنها أن تزيد من ذكاء منازلنا (إن صح التعبير)أن تساعدنا على توفر الوقت من أجل استثماره فيما هو أهم، في الإبداع وإنتاج الحلول الجديدة التي تطور الحياة وتساهم في تعزيز إنسانية الإنسان، قد لا يبدو وكأننا نسير على هذا النحو في هذا العصر (عصر التقنية)، فهاهي الحروب تنتشر ومعدلات الجريمة تُقلِق مجتمعات العالم المتحضر، إذاً أين يذهب ذلك الوقت الذي تم توفيره من عملية (تغيير القناة في التلفاز) أو (فتح الباب بالمفتاح)؟
الوقت يذهب أمام التلفاز، وفي متاهات الشبكات الاجتماعية وفي محاول متابعة وفهم الأجهزة الذكية، الوقت يذهب في ماهو جديد ومثير، فلقد أصبح هذا العصر مليئ بالأشياء الممتعة، ألعاب فيديو لا يمكن مقاومتها، مسلسلات جديدة لا يمكن تفويتها، شبكات اجتماعية لا يمكن الشفاء من إدمانها ….الخ
إن الوقت الذي هو من أثمن ما يمتلكه الإنسان، ليس بالضرورة أن يتم توفيره عبر زيادة ذكاء الأجهزة من حولنا، صحيح أن بعض الأجهزة التقنية اليوم قد تكفلت بالقيام بالكثير من المهام الروتينية التي تسرق منا بعض الوقت، لكن ليس إلى درجة كبس مفتاح الإضاءة أو تغيير القناة في التلفاز، فليس بالضرورة أن نلاحق جديد التقنية دون أن نفكر ملياً هل فعلاً سيكون لتلك الأجهزة تأثير فعلي في تطوير حياتنا، أو في دعم مسيرتنا الإنسانية.
بخصوص الكنبة
ما المشكلة عند القيام من فوق (الكنبة) وتغيير القناة، أو من أجل إطفاء مصباح الإضاءة، ليس هنالك من عيب من حمل مفاتيح المنزل في جيوبنا، تلك الأعمال البسيطة تساعد الجسم على أن يتحرك والعظلات على أن تتمرن، هذه الأجساد إنما خلقت للحركة، مثلما خلقت العقول للتفكير، وكي لا تفسد (تصاب بالسمنة مثلاً) يجب أن تستمر في التحرك والعمل، صحيح أن نمط الحياة اختلف كثيراً عن نمط حياة الآباء والأجداد -من كانوا يسقون الأرض من عرق جباههم- إلا أننا قادون على تعديل نمط حياتنا بما فيه مصلحتنا، وليس من مصلحة الإنسان أن يعود جسمه على الكسل والخمول.
الاعتماد على النفس للقيام ببعض الأعمال أمر مهم لكنه أكثر أهمية للأطفال، فالمشكلة التي نعاني منها الآن أن جيل جديد ينمو ويدخل معترك الحياة وهو غير قادر على الاعتماد على نفسه ومواجهة مصاعب الحياة، لذلك تحدث الكثير من المشاكل الأسرية وتنتشر الأمراض النفسية في المجتمعات وخاصة المتقدمة منها، فبمجرد أن يكبر الطفل يكتشف أن الحياة صعبة وأن الأشياء لا تأتي بالساهل، وعليه أن يتعب ويكافح ويصبر، تلك المعاني التي لم يتدرب عليها حين كان مستلقياً فوق الكنبة، يأكل الفشار ويشاهد مئات القنوات التلفزيونية أمامه بدون أن يتعب حتى في تغيير المحطة.
لقد أصبحت (الكنبة) في السنوات الأخيرة رمزاً للسلبية، للاكتفاء بالمشاهدة وعدم القيام بشيء، أنا لا أتحدث عن هذه الرمزية من الناحية السياسة، بل أشير إليها كرمزية متعلقة بنمط الحياة بشكل عام، فـ (الكنبة) وإدمان الجلوس عليها وعدم القيام لتغيير المحطة أو إضاءة الأنوار يُكسب الإنسان سلوك الكسل وعدم المبادرة، ومع الأيام تتفاقم هذه المشكلة حتى تصبح أحد أسباب تخلف الإنسان عن أداء دورة الريادي وترك بصمته الحياتية.
ومع ذلك …
لكن، أعود فأقول أن التطور التقني والأجهزة الذكية هي إحدى حسنات العصر الحديث، لقد ساهمت وتساهم في تطوير حياتنا في جوانب مختلفة، لكن المشكلة هي عندما ننظر إلى التقنية وكأنها غاية بحد ذاتها، في حين أنها في الأخير مجرد وسائل تخدم غايات، لذلك وقبل شراء أي جهاز جديد، يجب أن نفكر ونتأمل: هل سيفيدني (حقاً) ذلك الجهاز، هل سأشتريه لأن له حاجة فعلية أو سيحل مشكلة قائمة، أم أن الأمر مجرد متابعة للجديد وإشباعاً للفضول ؟
فيما يخص أجهزة المنزل الذكي، هنالك فعلاً بعض الأجهزة التي يمكن لها أن تطور حياتنا، مثل أجهزة الأمن والحماية وأجهزة التبريد الذكية، وقد تطرق الأخ أحمد جبير في مقالة سابقة عن تلك النواحي المفيدة، وما قد يفيد أحدهم، ليس بالضرورة أن يفيد الآخر، فكل شخص له متطلباته واحتياجاته، لكن لا أعتقد أن حاجة (الراحة) يجب أن يكون لها أولوية كبيرة في حياتنا، فكلما زاد البحث عن ما يريح ويقلل المجهود، كلما عودنا أجسادنا على الكسل وعقولنا على التواكل، ولن أقوم هنا بسرد عواقب الكسل والراحة المفرطة، ويكفينا أن ننظر إلى حياة أجدادنا وصحتهم النفسية والجسدية، لنعرف الفرق ونأخذ العبرة.
أحدث التعليقات