إن قصص هذه الملحمة التي قامت بين موسى وأتباعه من جهة، وبين فرعون وقومه من جهة أخرى، وما انتهت إليه من تحرير بني إسرائيل من قبضة فرعون الذي أدركه الغرق، جاءت مفصلة في القرآن الذي يعتبر أكبر مصدر تاريخي لحياة الرسل والأنبياء، ورسالاتهم الموحى بها إليهم. وتشابهت فيها آيات أسفار العهد القديم مع آيات القرآن الكريم، إذ يقول القرآن : “إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يُذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين” (سورة القصص، الآية 4).
ثم يزيد سفر التكوين : “وفي جبل سيناء كلم الله موسى وارتبط معه بعهد وميثاق أن ينصره على فرعون ويؤيده في معركته مع طغيانه، وأن يهلك فرعون وقومه”. ثم يذكر سفر التكوين ما كان يعانيه بنو إسرائيل من فرعون من استعباد، وتسخير، وإرهاق، وحمل الأثقال، والقيام بالأعمال الشاقة، لإكراههم على أن يبنوا له مدينتي فيتوم ورمسيس (التي حملت اسمه). (والمدينتان تقعان في القسم الشمالي الشرقي من دلتا النيل).
وجاء في سفر التكوين : وقال الله لموسى : “أنا الرب سمعت أنين بني إسرائيل الذين استعبدهم المصريون فذكرت عهدي لهم. فقل لبني إسرائيل : أنا الرب أنجيكم من نير المصريين، وأنقذكم من عبوديتهم، وأرفع ذراعي وأنزل بهم أحكاما رهيبة. سأدخلكم الأرض التي رفعت يدي وحلفت أن أعطيها إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأعطيها لكم ميراثا”. (7-8-9).
تلتقي الديانات الإبراهيمية الموحدة الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، على رسالة تحرير الفرد والمجتمع من العبودية، بتحريرهما من الجهل، وصونهما من الظلم، وعلى تكليف الله الإنسان بمهمة استخلافه على الأرض، لإعمارها وإصلاحها، أي أن للإنسان رسالة بَعَثَ الله لترسيخها في الأذهان والضمائر والقلوب رسلَه الثلاثة لتربيته على الاضطلاع بها، وتأهيله للقيام بها، وربط تمتعه بحقوقه بحسن استعمالها فيما يرضي الله والعباد.
إسهام الديانات الإبراهيمية الموحدة الثلاث في ترسيخ حقوق الإنسان
ويزيد سفر التكوين : “وكان فرعون يخشى من تكاثر نسل بني إسرائيل، ويتوجس خيفة أن يولد منهم من يحل مكانه على عرش مصر، فأمر بقتل كل مولود ذكر يولد، وأبقى على الإناث ونادى في قومه أن اطرحوا في النيل كل ذكر يولد لبني إسرائيل وأبقى على كل أنثى”.
وعن ذلك جاء في القرآن : “ونريد أن نَمُنﱣ على الذين استُضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونُرِي فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون” (سورة القصص، الآية 4 و 5).
أ-الديانة اليهودية :
الحلقة (20)
من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.
وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.
إن تاريخ رسالة موسى وما أوحى الله به إلىه من قيم خيرة، دعا إليها قومه وصرخ بها في وجه فرعون طاغية مصر وإلهها، هي ملحمة تحرير للفرد والجماعة، وإحقاق للحقوق الإنسانية.
بيد أن هذه الديانات تفاوتت في تحديد مضامين الحقوق الإنسانية، وتفصيل أحكامها. فما جاء عن ذلك في اليهودية أقل مما جاء في المسيحية. وما جاءت به هذه أقل مما حفل به الإسلام من تفاصيل ودقائق. وقد يُردﱡ ذلك إلى وتيرة تطور الإنسان التي تسارعت من عهد موسى إلى عهد محمد، مرورا بعهد عيسى عليهم السلام.
نقرأ في سفر الخروج من الكتاب المقدس هذه المقدمة التي يخاطب الله فيها موسى بقوله : “أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من مصر من أرض العبودية” (20/2). ويتحدث هذا السفر عن تفاصيل اضطهاد بني إسرائيل (أو بني يعقوب) بمصر التي لجأوا إليها بعد مجاعة حلت بأرض كنعان، فخاف فرعونُ مِصرَ منهم، فاستعبدهم وضيق الخِناق عليهم. فأراد الله أن يخلصهم من طغيانه، فاختار موسى نبيا ورسولا لقيادتهم، وتأهيلهم للتخلص من القهر والاستعباد، وتمتيعهم بالحرية. فرسالة موسى بهذا جاءت لإحقاق الحقوق الإنسانية التي داسها الطغيان الفرعوني.
انطلقت التشريعات اليهودية من صحف موسى التي سماها الله بهذا الاسم في القرآن : “إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) (سورة الأعلى، الآية 18)، ومن الألواح التي جاء ذكرها في سفر التثنية (22) : “هذه هي الوصايا التي كلم الله بها وكتبها على لوحي الجبل وسلمها إلي”، وقد تحدث عنها القرآن في عدد من السور والآيات. ومنها ما جاء في سورة الأعراف، الآية 145 : “وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ”.
أحدث التعليقات