ذات يوم قال هيجل (1770-1831م) إن قراءة الصحف اليومية في المجتمعات الحديثة ستحل تدريجياً مكان تلك الطقوس العتيقة في المجتمعات التقليدية. أما جورج لويس بورخيس، معاصرنا المتوفى أوائل الثمانينات، فيذهب إلى أننا أصبحنا نحرص على تتبع أخبار الصحف والإذاعات كل صباح فقط من أجل أن نجد ما نثرثر حوله مع الآخرين في المساء!. وبين ما قاله فيلسوف التاريخ والفنون والأهم في فجر العصر الحديث، أو عصر الحداثة، وما قاله المثقف الأرجنتيني الموسوعي والمبدع الساخر الماكر تكمن وتتجلى حقائق ومفارقات الثورات المتعاقبة في وسائل الإعلام وتقنيات تبادل الأخبار والصور والمعلومات والأفكار من مختلف المصادر وفي مختلف المجالات.
في زمن هيجل كانت الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية في بدايات انتشارها وجاذبيتها. كانت وسائل جديدة تؤمن وظائف جديدة في وضعيات اجتماعية جديدة، ومن هنا نجاحها في استقطاب اهتمامات الناس والبدء في بلورة ما سيعرف لاحقاً بـ «الرأي العام» كسلطة جديدة تضمنت تراتبية جديدة للعلاقات بين «الخاصة» و«العامة» أي بين تلك النخب القليلة التي كانت المنتج والمستهلك الرئيس للثقافة العارفة السائدة والجماهير التي ظلت على مدى التاريخ منشغلة بحاجاتها اليومية. فهذه الجماهير تحديداً اقتحمت مجال التعليم ومن ثم عززت حضورها الفاعل في مختلف مستويات الحياة لدرجة أن مختلف السلطات أصبحت تستمد مشروعيتها من أصواتها منذ الثورة الفرنسية (1789م) ولا غرابة أن تتجه إليها الوسائل الإعلامية الحديثة وتتخذ من أسمها نعتاً ملازماً لها لا مجرد صفة عابرة. كل هذه المتغيرات جاءت مسنودة بمنطق التقدم العلمي الذي أدرك هيجل قبل غيره أنه سيغير مجرى التاريخ خاصة وأن منتوجاته العملية أي «التقنيات» ستضمن له المزيد من الاستقلالية والفاعلية باستمرار. فالعلم الحديث، علم الطبيعة والرياضيات، لا يجب ما قبله من معارف فحسب، بل يجب ذاكرته القريبة ويقطع معها إذ يحيل مقولاتها ومفاهيمها ونظرياتها إلى مجال «تاريخ العلم» أو مجال «فلسفة العلوم» وهما علمان إنسانيان لا يعنيان كثيراً ذلك الباحث المستغرق في بحث معملي أمبريقي لابد أن ينطلق من «آخر ما وصل إليه العلم» في هذا المجال التخصصي أو ذاك.
نعم إن منطق العلم ومنتوجاته التقنية هو عامل الإبدال التاريخي الأقوى والأعم أثراً في حقبة زمنية جديدة أدرك هيجل قبل غيره أنها ستلغي المعاني التقليدية للعلم والفن، بل وللإنسان ذاته وهنا تكمن المفارقة الكبرى التي نظر لها هيجل وهي في بدايتها. فرغم كل ما قيل عن مثالية هذا الفيلسوف الفذ إلا أن خطابه العام ظل باستمرار وثيق الصلة بالواقع، ولعل الفضل في ذلك يعود أولاً إلى حرصه على بحث كل القضايا المتعلقة بالفلسفة والعلم والفن في ضوء اتصال الوعي بظواهر العالم الخارجية وبأحداثه المعاشة. فهذه الظواهر هي التي تحدد عمليات الإدراك وتبلور شكل الوعي وبخاصة إذ تعاين بدورها في ضوء «التاريخ» الذي طالما اعتبره هيجل «الأب الشرعي الوحيد للحقائق البشرية».
إنها مفارقةس ذات دلالة مأساوية في العمق وذلك لأن منطق العلم وتقنياته كلما تقدم أنذر بالنهايات غير السعيدة للكائن الإنساني الذي أصبح رهينة مغتربة أو «مستلبة» لمنتوجات علمه وعمله مثله في المجال أو ذاك. نعم إن منطلق العلم الحديث وتقنياته هو عامل الإبدال الأقوى والأعم أثراً في حقبة تاريخية تنبأ هيجل قبل غيره بأنها ستغلي المعاني التقليدية للتاريخ والفن، بل وللإنسان ذاته، وهنا تكمن المفارقة الكبرى لمقولة «العلم» في الخطاب الهيجلي. فرغم كل ما قيل عن مثالية هذا الفيلسوف الكبير إلا أن خطابه في مجمله وثيق الصلة بالواقع، ولعل الفضل في ذلك يعود إلى بحثه لكل قضايا الفلسفة والعلم والفن في ضوء الوعي المتصل لظواهر العالم الخارجية التي تحدد شكله ومحتواه عبر التاريخ وفي ضوئه وليس هذا بمستغرب من مفكر هو ذاته من أكد بانتظام على «أن التاريخ هو الأب الشرعي الوحيد لكل الحقائق البشرية».
منظور بورخيس يختلف بالطبع عن منظور غيره، هو الذي كان شاهداً فذاً على التحولات الجذرية التي تلاحقت خلال القرن العشرين، ولعل كثرتها وغرابتها هي التي دفعته لتبني ذلك الخطاب الساخر الماكر سواء في محاضراته الغنية بالأطروحات أو في أعماله السردية الخلاقة والعصية على التصنيف.
ذلك مثل ذلك الصياد الشقي الذي أخرج، بالصدفة، المارد من الجرة ولم يعد إليها ويتخلص من موت تراجيدي كوميدي محقق إلا بحيلة تشبه الحلم بالخلاص لا غير!.
منظو بورخيس يختلف بالطبع عن منظو هيجل لكنه لا يلبث أن يتقاطع معه وربما يعززه في العمق فالكاتب الذي أدمن الترحل بين كتف أهم مكتبة في بوينس أيرس، وتمثل جيداً أهم منجزات الحضارات القديمة ومنجزات حضارته الحديثة، كما شاهداً فذاً على التحولات الجذرية التي تلاحقت خلال القرن العشرين،ولعل كثرتها وغرابتهاس هي التي دفعته إلى تبني ذلك الخطاب الساخر الماكر سواء في محاضراته الفكرية الغنية أو في أعماله السردية الخلاقة والعصية مع التصنيف.
وضمن هذه التحولات تلك الثورات الاتصالي التي تحقت في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفاز والهاتف ومن ثم في مجال شبكات المعلومات التي تكاد اليوم تحيل كل التقنيات الإعلامية- الاتصالية السابقة من مخلفات الماضي!. فالكاتب المبدع الذي ظل مفتوناً بسحر الكلمات في الحضارات التقليدية كان يعي جيداً أو وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية أصبحت من حيث الوظيفة لعبة يتحكم فيها أفراد وجماعات ومؤسسات لا تفكر في «الجماهير» إلا من منظور الربحية أو من منظر الاستتباع الذهني والعاطفي!.
هكذا لم يكن لديه ولدى أمثاله استعداد لمنح وسائل كهذه المصداقية والثقة لأ اللعبة ينبغي التعامل معها بخفة وحذر ومكر، وبخاصة من المنظور الفني الذي هو منظور لعبي عنده وعند كانط من قبله. فالتطور المذهل في وسائل نقل وبث الخبر والمعلومة والصورة أدى إلى فصل الإنسان الفرد عن محيطه الاجتماعي والبيئي الطبيعي. وهذا الفصل هو المقدمة الأولى لغربته واستلابه وإعادة تشكيل وعيه وخياله بما يحقق مصالح تلك الفئات والمؤسسات وعبر إيجاد حاجات وهمية لديه تدفعه دفعاً إلى المزيد من العزلة والاغتراب. لقد أصبح بإمكانه أن يتواصل مع آخر افتراضي صوري ويخوض معه في قضايا متنوعة وهو في مكتبه أو في منزله أو في وسيلة انتقال من مكان لآخر ومن زمن لزمن. وضمن سيرورة اتصال كهذه لابد أن يتم استبدال الواقع العياني المحسوس والملموس بواقع توهمي ظني تنطوي صور الشبحية على رسائل غاية في التخفي والتأثير، وهكذا تؤثر سلبياً في المتلقي الذي يقنع بدور «المتفرج السلبي». أما بورخيس وأمثاله فيدركون جيداً منطق اللعبة وبالتالي لا تغويهم هذه الوسائل والتقنيات الاتصالية إلا بقدر ما تعينهم على تحقيق تواصل عابر قد نحتاج إليه بعد صمت طول أمام نص متميز أو أمام ورقة بيضاء نحاول أن نكتب عليها وفيها ذلك النص الذي نحلم به على الدوام. هنا تحديداً ينطرح التساؤل القلق حول مدى عبث هذه الوسائل والتقنيات في الوعي والخيال الجماعي العام في مجتمعات تخرج للتو من أزمنتها العتيقة للتواصل مع عوالم الحداثة وما بعدها!!
الكاتب : د. معجب الزهراني
المصدر : جريدة الرياض
أحدث التعليقات