وحضﱠ القرآن والسنة على وحدة صف الأمة وتجنب الفرقة. جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” (سورة آل عمران، الآية 103)، “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فَتَفَرﱠق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون” (سورة الأنعام، الآية 143). وجاء في السنة قول الرسول : “لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا”. كما جاء أيضا : “لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”.
جاء في القرآن الكريم : “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” (سورة الأنبياء، الآية 92) وجاء فيه : “وإن هذه أمتكم واحدة وأنا ربكم فاتقون” (سورة المومنون، الأية 52). وأبرز هذه الوحدة في أنصع صورها الحديث الشريف القائل : “ترى المؤمنين في توادﱢهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر”.
وبمقتضى ذلك يبدو لأول وهلة أن توزع الأمة بين مذاهب مخالف للدين، خاصة ما جاء في سورة البقرة من النهي عن اتباع السبل المفرقة عن سبيل الله. إلا أن تعمق فهم هذه الآية يقودنا إلى أن الآية لا تعني إلا التفرق على السبل الضالة المضلة عن نهج الله، وليست مذاهبنا الإسلامية التي لا تختلف إلا في الاجتهاد الفرعي هي المعنية بالآية.
الحلقة (8)
1- التقريب ووحدة أمة الإسلام :
2-الخلاف والاختلاف :
وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.
إن السبل المنهي عن اتباعها هي سبل الخلاف لا سبل الاختلاف على التشريعات الفرعية التي لا يوجد لها نص قطعي. وهي المعروفة بالمذاهب (الاجتهادية).
وقد فرﱠق الله في الكتاب الكريم بين الخلاف والاختلاف، فندد بالأول واعتبر الثاني أمرا عاديا لا ضير فيه، بل هو سنة من سنن الله فقال سبحانه: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” (سورة هود، الآيتان 117-119). وقد اختلف المفسرون بين من قال إن الإشارة في قوله تعالى : “ولذلك خلقهم” إلى الرحمة، ومن قال إنها للاختلاف. ولو أخذنا بهذا التفسير الأخير فإن ذلك الاختلاف سنة الله التي يخلق الله البشر جبليا عليها لإثراء الرأي وتنويع الاجتهادات البشرية، ولاكتشاف الأفضل في الدنيا والأهدى في الآخرة. ولا كذلك الخلاف الذي يفرز الفرقة والتباغض والتطاحن وتبادل الاتهامات، ويسعى فيه كل طرف إلى اعتبار مذهبه النهج الوحيد الحق وما عداه الباطل، أو الخلاف الذي يخرج بصاحبه عن صف الأمة، فيفارق الجماعة وينكر دينها وشعائرها وقيمها. وحتى من حيث الصياغة العربية، فإن الخلاف (بصيغة فعال) يوحي بالصراع، ولا كذلك الاجتهاد (المذهبي) الذي يصل بصاحبه إلى اكتشاف حكم شرعي يأخذ به لنفسه، أو لمن يفتي له به، دون أن تدفعه النفس الأمارة إلى النيل من اجتهادات الغير بالطعن فيها، والتطاول عليها.
من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.
التقريب بين المذاهب الإسلامية
إن كتاب الله وسنة رسوله اتفقا على أن الأمة الإسلامية تشكل وحدة متراصة صفا مرصوصا واحدا لا انخرام فيه ولا خلل ولا اعوجاج، لأنها موحدة بوحدة خالقها الذي لا تشرك معه أحدا، وموحدة في عبادتها لله الواحد. فالناس جميعا عباد الله وعُباده أو عابدوه، وموحدة في أداء الشعائر الدينية الواحدة، والتوجه إلى القبلة الواحدة، والعمل بدستور القرآن الواحد.
يبدأ التقريب بين المذاهب الإسلامية بجرد وإحصاء ما بينها من وفاق ينتظم عليه إجماع الأمة الإسلامية، وحصر ما بينها من خلافات فرعية، بهدف التدليل على أن ما يجمع بين المذاهب الإسلامية أكثر مما يفرق، واعتبار مجالات الاختلاف في الفروع شأنا غير ذي بال أو ثانويا. وكل ذلك يصب في معالجة المعادلة الكبرى : معادلة توحد العالم الإسلامي أمة واحدة ملتقية على كلمة سواء. وهذه المنهجية هي التي عُمل بها في اللقاءات والندوات التي عُقدت لمعالجة قضية التقريب، تلك اللقاءات التي نتجت عنها حصيلة فكرية أغنت مجال البحث النظري للقضية، بحيث يصح القول إن أسس الاستراتيجية المنظر لها أصبحت الآن ليست فقط واضحة، ولكن أخذت تُدرس بعناية علمية حصيفة النظرة، لكن المقترحات العملية لتجاوز التنظير إلى التطبيق هي ما نفتقده، وهي ما سنتناوله فيما يلي من خلال مقترحات.
وقد فرق الله نفسهُ –تعليما لنا- بين مفهومي الاختلاف والخلاف على النحو الذي أشرنا إليه فجاء عن الاختلاف قوله تعالى : “إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيهما من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” (سورة البقرة، الآية 164).
أحدث التعليقات