إن هذا الاشتراك في المسؤولية يقتضي الإشراك في السلطة. وبمعنى آخر إن الفرد كالجماعة لا يعتبر في نظر الإسلام غير مسؤول، بل هو عون للسلطة للسلطة القائمة إن لم نقل –وبدون تجاوز- إنه رجل سلطة مكلف بنوع من الحكم ما دام مطالبا بالدعوة للخير المتعارف عليه في الدين والمجتمع (معروف)، ومكلفا بتغيير كل وضع أو مخالفة لا يقرهما الدين والمجتمع (مُنكَر) لا عن طريق استنكار الفرد والجماعة قلبيا ووجدانيا ولكن عن طريق التغيير باليد واللسان، أي بالمساهمة الفعلية بجانب السلطة الحاكمة في تغيير الوضع وتقويم الانحراف. فالمواطنة الإسلامية لا يتحملها المواطن بالوراثة أو بالميلاد في الوطن، بل باختياره للعقيدة بما يتطلبه هذا الاختيار من مساهمة بجانب الحاكمين في إصلاح المجتمع والدفاع عنه.
هدف الحكم :
إن الإسلام يوضح بجلاء مفهوم الحكم وطريقة إقامته على أسس واضحة لا يقبل لها بديلا. فلابد من توفر العدالة، وإرادة إحقاق الحق، وبذل الجهد في إظهاره وإعلانه، وإلا لم يكن الحكم إسلاميا. وضرورة وجود الحكم متوقفة على ضرورة تحقيق مفهومه. فالمجتمع لا يصلح بدون حكم، ولكن الحكم ليس غاية لذاته، وإنما هو لتحقيق هدف إصلاح المجتمع البشري وحفظ حقوقه، ولذلك فالحاكم مسؤول أمام الرعية التي تملك مراقبته وحتى وضع حد لسلطته.
فالسلطة الآمرة الحاكمة التي تعهد إليها الجماعة الإسلامية بتسيير شؤون المجتمع لا يقام حكمها إلا في ظل الاستقامة والعدل، فعليها أن تمارس وظيفتها بالنيابة عن الأمة دون شطط ولا استعلاء، ومن غير ضعف أو تهاون، بل عليها أن تتقن عملها بأهليتها المستمرة للحكم، وإلا فقدت مصداقيتها وأهليتها لتحمل الأمانة.
الحلقة (6)
إن الإسلام لا يلقي على كاهل السلطة الحاكمة وحدها مسؤولية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –وبها يتحقق الأمن الداخلي- ولا يُؤْثر السلطةَ الحاكمة بمسؤولية الدفاع عن الكيان ضد التهديد الخارجي، وإنما يعتبر ذلك وظيفة مشتركة بين طرفي الحكم، ومسؤولية مفروضة عليهما بالتساوي. ومعيار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطلق من تقيد المجتمع بجميع فصائله بتعاليم الشرع لتوفير الصالح العام، سواء في ذلك الحاكمون أو المحكومون.
وليس على الطرف الحاكم غضاضة في تقاسم المسؤولية مع الطرف المحكوم. لأن الطرف الثاني لا يمارس إلا مسؤوليته في إطار المساعدة التي وكل إليه المجتمع أمرها، دون أن تقترن هذه المساعدة بتطاول على مقام الحاكم، إذ إشراك المحكوم في المسؤولية لا يتنافى مع ما يجب أن يتمتع به الحاكم من حرمة واعتبار، ما دام عمل المواطن إنما هو مساهمة في تسهيل عمل الحاكمين ومأموريتهم.
وقد ضبط الإسلام علاقة الحاكم بالمحكوم بدءا من المرحلة الأولى التي هي تعيين الحاكم، حيث تستمد هذه العلاقات قوتها من قاعدة اختيار الحاكم من طرف الأمة، لتظل العلاقة مستمرة بينهما ويبقى المحكومون هم الذين يمارسون السلطة التأسيسية للحكم. ولا يُنهي الاتفاق على تعيين الخليفة أو الحاكم في مركز السلطة هذه العلاقة، بل تظل ممتدة على شكل تعاون الطرفين كل في دائرة اختصاصه، ما حدد له من حقوق وواجبات كما سنرى.
مفهوم الحكم والسلطة في الاسلام
من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.
تفيد كلمة الحكم في اللغة العربية ما يجمع بين الأمر والاعتدال والإتقان، فالحكم ليس سلطة مطلقة وأمرا مستعليا، بل هو أمر عادل متقن هادف لإقرار الحق في توازن. ويقتضي وجود الحكم حكاما حكماء يحكمون في القضايا ويُحكمون أي يتقنون أعمالهم. وهذه اللفظة (الحكم) يُراعى في اصطلاحها الفقهي الاعتماد على أصول تشريعية في إصدار الأحكام المبنية على الحق والعدل، ولا يكون ذلك إلا بواسطة حاكم مدرك لكل ذلك، له من الصفات ما يمكنه من أداء عمله، كما له من المؤسسات والأجهزة ما يستطيع به تحقيق عمله كذلك. ولهذه الأجهزة تنظيمات وإجراءات تساعد على تنفيذ الجكم.
إن الإسلام إذن يعتبر الحكم أمانة ملقاة على الطرف المتولي –برضى المحكوم- لرعايتها، ولكنه لا يعفي المحكوم من المساهمة مع الحاكم في رعايتها مع تقاسم المسؤولية بينهما فكل مسؤول عن رعيته.
وإذا كان للحكم في مفهومه الغربي طرفان : حاكم ومحكوم، وإذا كان القانون الدستوري المعاصر يفرض وجود طرفين غير متكافئين في مسؤولية إقرار الحق، أحدهما آمر، والآخر مأمور، أحدهما بيده السلطة، والآخر موجه بواسطتها، وإذا كان هذا القانون لم ينشأ إلا على أساس البحث عن الحدود الوضعية التي تقوم حاجزا بين الحرية والمسؤولية في محاولة للتوفيق بين مقتضياتهما، فإن الحكم في الإسلام يعتمد على مجتمع واع برسالة القرآن المضبوطة بالوحي، ومتأثر بروح الإسلام. يتقاسم فيه الحاكم والمحكوم السلطة. ولهذا، فالدين لا يقيم بين الحاكم والمحكوم حواجز فاصلة، بل يقر المساواة بينهما مع اختلاف وظيفة كل واحد منهما اختلافا يحقق التكامل بينهما.
تعاون طرفي الحكم :
وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.
إن هدف الحكم الإسلامي سالف الذكر لا يمكن تحقيقه إلا بتنظيمات وإجراءات، حيث تلتقي فيه إرادة الحاكمين والمحكومين فرادى وجماعات، وتتضافر حول تحقيقه الإرادات المشتركة الموجهة بالخطاب القرآني والسنة النبوية، المعتمدة على مراقبة ومحاسبة ذاتية مستمرة للضمير، سواء لدى الحاكم أو المحكوم، فكلاهما حارس وحريص، حارس لنفسه ومجتمعه، وحريص على تحقيق عدالة الله في الأرض حتى لا يكون الحاكم في حاجة دائمة إلى سلطة رادعة لا يُلْجأ إليها إلا بالنسبة للبعض ممن لا يتقيدون باتباع أوامر الله ومراقبته في السر والعلن.
ولقد صور الإسلام المجتمع الإسلامي تصويرا واضحا لا لبس فيه. وهو المجتمع الذي يقام على العدل والمساواة في حدود تشريعات الإسلام وفي إطار تنظيماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعل منه مجتمعا متوازنا منسجما يؤلف وحدة بدون طبقات، يحصن فيه الضعيف من عدوان القوي، ويكون فيه للمحكوم والقاصر عن كفالة عيشه حق معلوم في مال الغني، ويسوﱠى فيه بين الرجال والنساء في المسؤوليات وفي الحقوق والواجبات، ويتحرر فيه الفرد والجماعة. أي أن هدف الحكم القائم خلق مجتمع متحرر يؤمن بالله كسلطة عليا لا نفوذ للبشر فوق نفوذها، كما يؤمن بحرية وكرامة الإنسان ويعمل لدعمهما وترسيخ جذورهما في أفراده وجماعاته.
طرفا الحكم :
ولهذا فالسلطة في الإسلام روحية أكثر منها مادية. وكما لا إكراه في الدين، فإن الحكم المنبثق عن الدين لا يعتمد القسر والإكراه في دعم سلطته إلا في حالات الشذوذ التي لا يخلو أي مجتمع منها، والتي تقل وتتضاءل في المجتمع النظيف السليم.
هدف الحكم في الإسلام إذن هو (العدل) الذي يوفره المجتمع الإسلامي لنفسه وللناس كافة. ولتحقيق هذا الهدف يجب العمل على إقامة مجتمع إسلامي يرتكز على العقيدة الصحيحة التي جمع الله الناس عليها. وليس من هدف للحكم إلا صيانة هذه العقيدة وما جاءت به من تعاليم ومبادئ وقيم لخير الإنسان.
ولا يسجل تاريخ الدولة الإسلامية في عهد محمد عليه السلام –وقد استمر ربع قرن- أن الحاكم لجأ إلى القوة المادية لقمع فتنة أو اضطراب أو صد محاولة انقلاب أو تغيير للأوضاع، بل إن إقامة الحدود على المنحرفين إنما تمت في حالات استثنائية لم تتكرر إلا نادرا. وكانت لا تقام إلا بثبوت فعلها والتيقن من ارتكابها وتُدرؤ بالشبهات والشك في حدوثها.
أحدث التعليقات