ألمانيا، فى مطالع القرن العشرين، عصفت بها قضيّة ما لبثت أن صارت فخًّا للألمان: إنّها تريد حصّتها «العادلة» من المستعمرات على النحو الذى يساوى ما غنمه البريطانيّون والفرنسيّون. الأمر انتهى بها إلى الحرب العالميّة الأولى وإلى هزيمتها المدوّية. تكرّر الأمر على نحو أشدّ فجائعيّة فى وقت لاحق: صار الردّ على صلح فرساى المهين وعلى الانهيار الاقتصادى سببًا لرفع النازيّين إلى سدّة السلطة، وكانت المحرقة والحرب العالميّة الثانية ودمار ألمانيا ثمّ تقسيمها إلى دولتين متخاصمتين.
اللعبة تغدو، والحال هذه، أكبر من اللاعب.
اشترك لتصلك أهم الأخبار
النظام السياسى، متى كان ضعيف الشرعيّة، غلبَه الميل إلى عزف على هذا الوتر علّه يُكسبه الشرعيّة التى يفتقر إليها. لكنّ الأمر لا يلبث أن يتحوّل إلى عقيدة مقدّسة يعجز النظام الذى أسّسها عن التحكّم بها. هنا تقع الأمّة فى فخّ القضيّة بدل أن تكون القضيّة رافعة لقوّة الأمّة.
قضايا مُحقّة وقضايا غير مُحقّة أو متفاوتة فى حقّيّتها قد يتلقّفها هذا المصير. فى روسيّا بزعامة فلاديمير بوتين وفى تركيّا بزعامة رجب طيّب أردوعان شىء من هذا: شعور بالاستضحاء مبالَغ فيه وطلب للعظمة لا تدعمه معطيات الواقع. فى هذه الغضون، يتعاظم التخبّط بالأزمات والتدخّلات والحروب الصغرى كما تزداد الحياة السياسيّة وَهَنًا وضمورًا فيما تتردّى صورة البلد فى العالم.
عربيًّا، لم يكن أسوأ وأخطر من قيام إسرائيل فى 1948 سوى تحوّل الردّ عليه إلى قضيّةٍ – فخٍّ للفلسطينيّين وللعرب المحيطين بفلسطين: حرب بعد حرب وهزيمة بعد هزيمة وتبديد للموارد وتعطيل للحياة السياسيّة وإيجاد مُسوّغات للقمع وتفسيخ للمجتمعات، فضلًا عن تعليق حياة الأفراد الفلسطينيّين وتجميدها. لكنّ هذا كلّه لم يكفِ لأن يعطى مراجعة هذا النهج جاذبيّةً شعبيّة. وبسبب عمق الفخّ، لا تزال الطاقة السحريّة لـ«المقاومة» تُعيى مَن يداويها.
حيال هذه القضايا وقد صارت أفخاخًا تتراجع أهميّة الحق واللا- حق، إذ تستقلّ القضيّة- الفخّ بذاتها، بمعزل عن أصولها الواقعيّة، وبدل أن يقودها العجز عن الانتصار إلى المراجعة، فإنّه يقودها إلى التحجّر والتثبّت المَرضى. ومقابل نقص البراهين الراهنة التى تعد صاحبها بالنصر، أو تجعل النصر احتمالًا ممكنًا، تُلحّ الاستعانة بالماضى، فعليًّا كان أم مؤسْطرًا. فهى تضمن البقاء فى الفخّ عبر ردّ كلّ جديد نواجهه إلى ما سبق أن واجهناه وانتصرنا فيه أو تراءى لنا ذلك. وهذا، فى السياسة، إنّما ينسج على منوال التعاطى الأصولى المعروف مع ظهور اكتشاف علمى جديد إذ يقال إنّنا سبق وامتلكناه فى زمن مضى أو نصّ قديم.
لقد ظهر قادة حاولوا ردع قضاياهم عن التحوّل إلى أفخاخ وردعَ شعوبهم عن الوقوع فيها. ما اقترحه الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة فى خطاب أريحا الشهير عام 1965 كان من هذا القبيل. تندرج فى الوجهة نفسها موافقة الجنرال شارل ديجول على استقلال الجزائر الذى تمّ فى 1962 ضدًّا على أيديولوجيّة «الجزائر الفرنسيّة». الأمر ذاته أقدم عليه إسحق رابين فى اتّفاق أوسلو عام 1993. ديجول واجه محاولتى انقلاب عليه ومحاولات اغتيال عدّة. رابين اغتيل. بورقيبة شُهّر به ولا يزال يُشهّر.
النظام الإيرانى اليوم لا يفعل إلاّ هذا: تحويل القضيّة النوويّة إلى عقيدة شعبيّة مقدّسة، لا يهمّ مدى توافقها مع قدرات إيران الاقتصاديّة، أو مع حاجاتها التنمويّة، أو مع موقع البلاد فى توازنات القوى الدوليّة، أو مع احتمال جعل المنطقة كلّها مساحةً للتخصيب وللاستيراد النوويّين. أمّا أن يُقتل على هذا المذبح كبير قادتها العسكريّين وكبير علمائها وأن تُضرب منشآتها النوويّة الأولى فتلك تفاصيل لا تستوقف المعنيّين بالأمر.
واليوم، حتّى لو نجحت إيران فى رفع العقوبات الأمريكيّة التى بات يصعب عدّها، ومعها العقوبات الأوروبيّة، وهو موضوع معقّد وملتبس، يبقى العقاب الأكبر لإيران وقوعها فى هذا الفخّ – فخّ القضيّة. فالنظام الذى يعتبر وقف الحروب شبيهًا بـ«تجرّع السمّ»، وفق العبارة الشهيرة للخمينى، والذى صلّب نفسه وأعاد تأسيسها على قاعدة حرب الثمانينيّات مع العراق، يتطلّب القضيّة – الفخّ شرطًا للبقاء. وهكذا يلوح الخروج من الفخّ مدخلًا إلى سقوط النظام، بالمعنى الذى قيل فيه إنّ موافقة حافظ الأسد على السلام تعنى إطاحته. أمّا أن يكون سقوط هذا النظام مدخلًا إلى خروج الإيرانيّين من الفخّ فهذا أقرب إلى تحصيل الحاصل.
أحدث التعليقات