اشترك لتصلك أهم الأخبار
زوزو نبيل
على ذكر الراديو الذى كانت له السيادة والنفوذ فى ذلك الوقت، كانت فوازير رمضان إحدى علامات هذا الشهر، ولها من الشعبية حضور جارف، واهتمام بحلها، ودائما ما تتسلل فزورة كل يوم إلى مجالس الأهل أو الأصدقاء، للتكهن وفك لغزها، ارتبطت الفوازير بالإذاعية اللامعة آمال فهمى، صاحبة برنامج على الناصية، الذى كان المستمعون ينتظرونه كل يوم جمعة، وهى واحدة من علامات الإذاعة المصرية عبر تاريخها، كتب الفوازير أيامها أباطرة الزجل والشعر العامى، فبدأت كتابة أحاجيها مع بيرم التونسى، وبعد وفاته تسلم راية الفوازير صلاح جاهين، وكلاهما مبدع من طراز رفيع، قلما يجود الزمن بمثليهما، ومن بعد جاهين كتبها الصحفى الكبير مفيد فوزى، من المهم التنويه إلى أن هذه الفوازير لم تكن بغرض التسلية العابرة، لأنها اتسمت ببعد تثقيفى، يحشد المعلومات والمعرفة، بأسلوب جذاب ومشوق، وبسبب براعة الكتابة والإعداد الإذاعى والتقديم كانت الناس تترقب الفوازير من العام للعام.
مدفع رمضان كان بالغ الأهمية لمن لا يمتلكون راديو وكانوا كثيرين، وكان انطلاق المدفع هو الغوث إعلانا برفع الأذان وبدء تناول الطعام، وأهمية انطلاق المدفع منذ عقود بعيدة أنه كان الممكن جدا عدم سماع الأذان من المساجد لسببين أولهما: لم تكن المساجد بالكثافة الموجودة بها الآن فى المدن، حتى إن دائرة نصف قطرها 100 متر يمكن وجود عديد من المساجد والزوايا بها، وثانيهما: أجهزة الصوت أصبحت ذات قدرات خارقة لم تكن متوافرة من قبل، وتتبارى الزوايا تحديدا رغم صغرها باقتناء أجهزة صوت هائلة الدوى الذى لا حاجة إليه فعليا، احتل مدفع رمضان مكانة محترمة بلغت الحد الذى جعل الأذاعة تمنحه مكانة محترمة، فكان صوت المذيع بعد انتهاء القرآن الكريم يعلن: نحن الآن فى انتظار مدفع الإفطار، وبمجرد انطلاق المدفع يشير المذيع بوقار: انطلق الآن مدفع الإفطار، أذان المغرب بصوت الشيخ رفعت.. لقد اشتهر هذا المدفع بأنه مدفع الإفطار، مع أنه كان ينطلق مرة أخرى قبل الفجر بوقت كاف ليتهيأ الناس للسحور.
مدفع رمضان
طاهر أبو فاشا
أما الدراما الرمضانية الإذاعية فكانت ملكتها المتوجة وعمود خيمتها وقمة توهجها حلقات مسلسل ألف ليلة وليلة، هذا العمل الأسطورى الساحر، الذى كان عقدا من الألماظ الحر يزين رقبة مسلسلات الشهر الكريم، وهى لم تكن كثيرة، لكنها محملة بالمعانى والقيم، سواء كانت دينية أو غير دينية، فى مسلسل ألف ليلة وليلة الذى أخرجه الإذاعى الجليل محمد محمود شعبان «بابا شارو»، وكتب منها ما يزيد على 800 حلقة «طاهر أبو فاشا» ما بين الفصحى والعامية، كانت موسيقى «رمسكى كورساكوف» البديعة التى تم اختيارها فى بداية الحلقة ونهايتها تصدح كل ليلة، وما إن تنتهى موسيقى المقدمة يهل على المستمع صوت «زوزو نبيل» الأخاذ، مغردة «بلغنى أيها الملك السعيد»، وفى نهاية الحلقة تعاودنا زوزو بعد أن يؤذن الديك معلنا قدوم الفجر، بصوتها الخلاب متثائبة «مولاى».. تاركة للمستمع الشغف فى انتظار الحلقة التالية.
من الأشياء الجميلة فى ذكريات رمضان تحلق الناس حول أجهزة الراديو فى الليلة التى يتم فيها الرؤية واستطلاع الهلال، وتكون اللمة فى البيوت والمقاهى التى لم تكن التليفزيونات قد غزتها بعد، والجميع فى الانتظار ترقبا لما سيعلنه المفتى عن بدء الصيام، وبناء على بيان المفتى يتم السحور فى ذات الليلة أو التى تليها. لم يكن يوجد طبعا «نت» ولا عشرات الفضائيات ولا موبايلات ترسل رسائل تخبر بهذا الحدث، لم يكن هناك وقتها سوى إذاعة البرنامج العام، التى تنقل الوقائع على الهوا، وكان يمكن معرفة النتيجة لمن لا يتابعون الراديو فى لحظتها، إذا تمت رؤية الهلال، من خلال موقف لطيف ودال على حب رمضان، لأنه فى التو كان الهتاف يعلو من كل المتابعين كبارًا وصغارًا.. هييييه.. تملأ فضاء الأمكنة، وبعد انتهاء بيان المفتى يعلن المذيع تهنئة الرئيس للشعب المصرى بمناسبة حلول الشهر الكريم، ثم تهانى كبار رجال الدولة للرئيس.
من أهم وقائع رمضان عربة الطرشى، التى كانت لا تأتى إلى السوق إلا فى هذا الشهر، وكان الطرشجى صنايعى مخلل بلدى لا مثيل له، يقوم بعمل توليفة من الأعشاب والتوابل تجعل المذاق خارقا للعادة، لدرجة أنه كان يوزع «مية الطرشى» بميزان حساس، وكثيرا ما كنت أتشاجر مع إخوتى عليها، الغريب أنه كان «طرشى» صحيا جدا، فإضافة إلى أن التخليل يتم فى براميل خشبية، كان على المشترى إحضار سلطانية للحصول على بغيته، لم تكن قد ظهرت بعد البراميل والأكياس البلاستيك، وكلتاهما بالغة الأذى والضرر. فى طفولتى أخذت حقى «تالت ومتلت» من هذا الطرشى النادر، كأننى كنت أستبق الزمن لأنه أصبح من المحرمات بعد إصابتى بضغط الدم، ومن ذكريات الطرشى، طفل جار فى نفس البيت يفطر فى الخفاء، يذهب معى يوميا للشراء، ويمتع نفسه حين نصل إلى مدخل البيت بالتهام بعض منه وشرب مائه السحرى، لأنه كان يعرف أننى لن أشى به.
بيرم التونسى
من ملامح رمضان زمان المسحراتى، الذى اختفى تقريبا، والغريب أن كل المسحراتية كانوا يرتدون الجلباب، ولم يكن من بينهم بتاتا من يرتدى القميص والبنطلون، على الأقل أثناء أداء مهامه الرمضانية، باستخدام الطبلة والصوت الحيانى، ونحن أطفال صغار كنا نهتم للغاية بمرور المسحراتى، لأنه بعد أن ينقده الأب أو الأم قرش صاغ أو قرشين «نص فرنك» بلغة زمان ويلقنه بأسماء الأبناء الصغار يقوم بالمناداة عليهم، كل واحد باسمه من أمام بيتهم، وهذا كان مدعاة للفرحة والتباهى بين أطفال الحى، بعد انتهاء رمضان وانقضاء عيد الفطر يقوم المسحراتى بالمرور على سكان الحى، شقة شقة ليحصل على المعلوم، بعد سهره الليالى لتنبيه النائمين كى ينهضوا حتى لا يفوتهم السحور، وكانت الناس تمنحه برضا، كل حسب إمكانياته، والمسحراتى يضع فى جيبه دون مراجعة لمن منح.
أحدث التعليقات