والإجابة أن نقل المومياوات كان خلفية لمشهد أكثر تعقيدًا، ولتفاعل عوامل كثيرة أطلقت لدى الناس طاقة إيجابية وحبًا للوطن ورغبة فى أن يتقدم البلد وقناعة بإمكانية تحقيق ذلك.
كل هذا صحيح، والمناسبة كانت فعلًا جميلة ومبهجة، والقائمون عليها يستحقون التهنئة على حسن التخطيط والتنظيم والتنفيذ. ولكن هذا كله لا يفسر حالة الحماس والفخر التى صاحبت مناسبة كانت- فى نهاية الأمر- مجرد احتفال بنقل المومياوات بضع كيلومترات وبافتتاح متحف جديد جارٍ العمل على إنشائه منذ عشرين عامًا. شىء آخر حدث فى الساعات القليلة التى استغرقها الحفل، أمر يستحق التوقف والتفكير فيما عبر عنه بشأن المجتمع وما يدور فى عقول الناس وقلوبهم وما يتطلع إليه المصريون.
على رأسها الرغبة فى رؤية مصر فى أبهى حالاتها، وفى استرجاع ما لدى البلد من طاقة فنية وحضارية وثقافية كادت تختفى تحت الجبال المتراكمة من الفن الهابط المفروض علينا فى وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى، فكانت تذكرة للمشاهدين بأن مصر لديها هذه الثروات الفنية الكامنة، التى لا تزال تقاوم ضغوط وتحديات القبح وتتحدى الاعتقاد السائد بأن الناس لا تقبل إلا على الفن الردىء، فإذا بجودة الموسيقى والعروض الفنية والأداء المحترف تفرض نفسها وتُذكِّرنا بأن المصريين لا يزالون أصحاب ذوق وحضارة وفن لو فقط أُتيحت لهم حرية الإبداع وحق الاختيار.
هل ما سبق فيه مبالغة فى قراءة مشهد السبت الماضى؟، ربما، ولكنى أحاول الرد على تساؤل طرحه العديد من الأصدقاء من خارج مصر: لِمَ كل هذا الضجيج والأمر لا يعدو أن يكون نقل رفات بعض الملوك والملكات من مكان إلى آخر؟!.
وأخيرًا، فإن المناسبة عبرت عما نعرفه جميعًا ونشعر به فى أعماقنا ولا نجد الفرصة للتعبير عنه: أن بلدنا فيه من التنوع والتعدد والثراء الحضارى ما يجعل مصر تظهر قوية وجميلة وراسخة بقدر ما نحترم هذا التنوع ونحتفى به، وأن الخطاب الجارى عن تنازع الهوية الفرعونية والقبطية والإسلامية والعربية والمتوسطية ليس إلا جدلًا سخيفًا لا يطمس حقيقة أن مصر هى كل هذه الهويات وأكثر، وأن التعدد هو طبيعة مصرية أصيلة، وأن ضيق الأفق ورفض التنوع ووضع الناس فى قوالب جامدة لا أساس له من الواقع.
«التعليم»: إتاحة نماذج امتحانات الصفين الأول والثاني الثانوي على موقع الوزارة
الطاقة الإيجابية الهائلة التى أطلقها الحفل عبرت عن عوامل مختلفة تتفاعل فى المجتمع منذ سنوات دون أن ندرى بها أو نعى بوجودها وعيًا كاملًا:
وكان هناك أيضًا شعور بالفخر من موقع المرأة المصرية فى هذه المناسبة بكل تفاصيلها، موقع استحقته بجدارة واكتسبته عبر السنين والعقود بإصرار ودأب. وهكذا شاركت المصريات فى الحفل، بل تصدرن المشهد، من الملكات اللواتى حكمن مصر منذ آلاف السنين وصولًا إلى الممثلات، والعازفات، ومقدمات الحفل، والمطربات، اللواتى شاركن فى التنظيم، وكل صانعات هذا الأداء المبهر، وكأن لسان حالهن يقول: نحن هنا ونحن قادرات على إثبات وجودنا ومكانتنا فى المجتمع واستحقاقنا لموقع مساوٍ للرجل، ولن يزحزحنا أحد ولا قوانين متحيزة أو تقاليد بالية عن هذه المكانة المكتسبة، فقط اتركونا نعمل وامنحونا الفرصة وسوف نثبت أنفسنا بلا صياح ولا ضجيج مفتعل.
اشترك لتصلك أهم الأخبار
ثم إن مفاجأة أخرى أصابت جمهور المشاهدين: أن فى البلد كل هذه المواهب والكفاءات التى لم يكن يعرفها إلا المتخصصون، وأنه من الممكن أن يتصدر المشهد الإعلامى والفنى وجوه وأبطال جدد بدلًا من الاكتفاء بذات المشاهير الذين يحتكرون الظهور فى كل المناسبات السياسية والفنية والاجتماعية كما لو كان البلد خاليًا من غيرهم. مرة واحدة تعَرّف الناس على مؤلفى موسيقى كلاسيكية، وعازفين، وقادة أوركسترا، ومصممى ملابس، ومهندسى إضاءة، وغيرهم ممن صاروا نجومًا بين ليلة وضحاها وازدحمت بهم القنوات حتى كاد الوقت لا يتسع لهم جميعًا. هذا كله نتاج حفل واحد، فتصوروا كم فى البلد من المواهب والخبرات الفنية والثقافية والعلمية ممن يعملون فى صمت.
بايرن ميونخ وباريس سان جيرمان مباشر .. البافاري يخسر بالثلاثة في عقر داره (فيديو)
أحدث التعليقات