ما قامت به حكومة عبد الإله بنكيران كان يؤسس لمسار تقدمي على الطريقة الإسلامية، بعد أن خاض في ملفات تجنبتها كل الحكومات التي سبقته. هذا يعني أن معارضته هو وبعض من أعضاء الحزب للمشروع الخاص بتقنين الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي، يتعارض تماما مع الخط السياسي الذي أقره هذا الحزب ويشارك في تفعيله حكوميا من خلال مشاريع وقوانين عديدة، كالتفكير في خطة لتقنين الإجهاض، وإطلاق نقاشات حول قضايا حقوقية وهوياتية هامة. كل هذه الملفات والقضايا تؤكد بالملموس أن حكومة العدالة والتنمية تقدمية في إصلاحاتها إلى حد بعيد، ومصادقتها على مشروع تقنين القنب الهندي ينسجم تماما مع هذه الصبغة.
لذلك، فإن كل ما يُثار من جعجعة هامشية من بعض أعضاء الحزب السابقين أو الحاليين، ليس سوى مزايدات مدروسة، وليست بريئة. ومن الغريب أن يمارس أعضاء البيجيدي هذه الاستراتيجية في قانون كهذا القانون المتعلق بتقنين الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي، على الرغم من كل المكاسب الثورية التي يمكن أن ينطوي عليها، وتجعله في ميزان حسناتهم الانتخابية. هذا القانون ليس صكا لتجويز تدخين المخدرات أو إنتاجها أو تصديرها، وإنما هو إجراء يهدف إلى التطبيع مع واقع موضوعي تعيشه بعض مناطق المغرب، وسحب البساط ممن يستغلونه لجني أرباح فكلية على حساب المزارعين البسطاء.
وإذا كان حزب العدالة والتنمية، وعبد الإله بنكيران على الخصوص، يدعي باستمرار أنه ينتصر للفقراء والبسطاء، فإنه ينبغي أن يكون أول المدافعين عن هذا القانون، ويعمل على دعم تمريره عبر كل المسارات التشريعية والتنفيذية بشكل مستعجل لخلق واقع جديد ومشرق لمئات الآلاف من أبناء المناطق الجبلية الذين يعانون من العزلة ويعيشون بين سندان المهربين ومطرقة الدرك. هذا ما فعله حزب العدالة والتنمية التركي، الذي يعرف الجميع أنه مرجع لكل الأحزاب الإسلامية الحركية، ومن بينها البيجيدي. هل كان أردوغان أكثر ذكاء من بنكيران عندما استبق الأزمة الاقتصادية وأقر في 2016 قانونا يقضي بالسماح بزراعة وإنتاج القنب الهندي الموجه للأغراض الطبية؟ هل يعلم العثماني وإخوانه أن هذا القانون سمح بإنتاج القنب الهندي في 19 إقليما تركيا بينها إزمير وأنطاليا، حيث يقوم المزارعون الأتراك بزراعة القنب تحت رقابة الحكومة. في 2019 ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطابا يعلن فيه أن بلاده ستقبل على زراعة القنب الهندي الموجه للأغراض الصناعية. ومنذ 2016 أضحى بإمكان المرضى في تركيا الحصول على علاجات وأدوية مصنعة من القنب الهندي أشهرها عقار Sativex الذي تستورد منه أنقرة كميات كبيرة.
لا يزال جناح واسع من نخب حزب العدالة والتنمية حبيس القراءة التراثية لمفهوم المرجعية الإسلامية، أي ذلك التأويل الشعبوي العامي للدين باعتباره قائمة طويلة من المحرمات التي لا تخضع لمنطق الظرفية الاجتماعية والاقتصادية والمغزى المقاصدي الذي يسعى إلى خدمة الإنسان المسلم وحماية مصالحه. هذا إذا أحسنّا الظن بسيل المزايدات التي أطلقها بعض من أعضاء الحزب منذ أيام، وبلغت ذروتها بالأمس بعد مصادقة الحكومة على مشروع قانون يتعلق بالاستعمالات المشروعة للقنب الهندي.
آخر مهازل هذه المزايدات تلك الرسالة التي وقعها رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، ويعلن فيها مقاطعة إخوانه من الوزراء، وتجميد عضويته في الحزب. وكلنا يعلم علم اليقين حجم القوانين التي مررها الرجل ضدا على إرادة فئات واسعة من المغاربة، مثل قانون المعاشات وقوانين إلغاء دعم صندوق المقاصة. ومن المستغرب أن يتمرد الرجل الذي كان وراء كل هذه الإجراءات المؤلمة اليوم على هذا التوجه “الإصلاحي” الذي ورّثه لخلفه.
هناك تقاطعات إيديولوجية وفكرية معروفة بين إخوان بنكيران وحزب أردوغان ولا ينكرها أي من الطرفين. غير أن الملحوظ أن عبور إسلاميي تركيا نحو الضفة الحداثية المتصالحة مع الواقع والتاريخ، أمر لا يغري كثيرا إسلاميي العدالة والتنمية، فعلى ما يبدو فإن ورقة المرجعية الدينية وتذكرة “الحلال والحرام” لا تزال جزء من خطة بعض التيارات في البيجيدي تشهرها بين الفينة والأخرى، سواء في مواجهة من تتهمهم بالتحكم، أو لدغدغة مشاعر الناخبين، أو للحفاظ على تماسك الحزب الداخلي بعد أن نالت صدمات الارتطام بالتدبير وتحمل المسؤولية الحكومية من تلاحم قواعده الاجتماعية. هذا التوظيف المكشوف لم يعد مثمرا اليوم، ومن مصلحة الحزب أن يتجاوزه ليدخل مرحلة جديدة بخط سياسي أكثر حداثة وانتماء للعصر.
أحدث التعليقات